من
المختبر إلى الميدان، فتتحول التجربة
المختبرية الناجحة إلى واقع ميداني
يشرف عليه الخبير الكيماوي وتموّله
الدولة. جرى ذلك في صناعة الورق
والمعادن وضَرْبِ العملة والعطور
والأدوية وغير ذلك.
وفي
مخطوطة (كتاب الحديد) لجابر بن حيان
الذي عاش في
الكوفة في القرن الثاني الهجري،
يحدّثنا عن طريقة التعدين في زمانه
قائلاً:
(اعلم
أن أصحابك أيها الأخ هم الذين يسكبون
الحديد في المسابك المعمولة برسمه بعد
أن يستخرجوه من معدنه تراباً أصفر
يخالطه عروق الحديد التي لا تكاد تظهر،
فيجعلونه في المسابك المعدّة لإذابته،
ويركّبون عليها المنافخ القوية من
سائر جهاتها، بعد أن يلتوا تلك الأتربة
الحديدية بشيء يسير من الزيت والقلي،
ويوقدوا عليه بالحجر والأحطاب،
وينفخوا عليه حتى يجدوه قد ذاب وتخلص
جسمه وجسده من ذلك التراب، ثم
يستقطرونه من أنجاش (ثقوب) كالمصافي في
تلك الأكوار فيتخلص ذلك الحديد المذاب
ويعيرّونه قضباناً من ذلك التراب،
ويحملونه إلى الآفاق والبلدان،
ويستعمله الناس فيما يحتاجون إليه من
منافع الإنسان).
هذه هي
المرحلة الأولى في استخراج الحديد من
التراب ولكن هناك عمليات تصفية أخرى
لصناعة الفولاذ يتحدث عنها جابر بن
حيان في المخطوطة ذاتها قائلاً:
(وأما
أصحاب الفولاذ فإنهم يأخذون قضبان
الحديد ويجعلونها في مسابك لهم مناسبة
لما يقصدونه في معامل الفولاذ
ويركّبون عليه الأكوار، ويطيلون عليه
النفخ بالنار، حتى يُصيّروه كالماء
الخرار، ويطاعموه بالزجاج وبالزيت
والقلى حتى يظهر منه النور في النار،
ويتخلص من كثير من سواده بقوة السبك
مدى الليل والنهار، ولا يزالون
يرتقبونه في دورانه بالعلامات، حتى
يتبين لهم صلاحه، ويضيء منه مصباحه،
فيصبونه في مجاري، حتى يخرج كأنه الماء
الجاري، فيجمدونه كالقضبان، أو في
حفرٍ من طين مخدوم، كالبواطق الكبار،
ويخرجون منه الفولاذ المصفَّى كبيوض
النَّعام، ويصنعون منها السيوف والخوذ
وأسنّة الرماح وساير العُدَد).
ويبدو
من حديث الكيماوي العربي الشهير جابر
بن حيان أن عملية التعدين هذه سهلة
للغاية، ولكن الواقع لم يكن كذلك،
فهناك قلة من العلماء يستطيعون تحديد
التربة الغنية بالحديد، وبالتالي فإن
صناعة مثل هذه ستكون عالية التكاليف إن
لم تتوفر الشروط الأساسية لإقامة مصنع
كبير للتعدين تحيط به أرض غنية بهذا
المعدن لكي تستطيع رفده بالمواد
الأولية بشكل دائم.
وقد
اضطرت مدن عربية وإسلامية كثيرة في ذلك
الوقت إلى استيراد قضبان الحديد
والفولاذ الجاهزة لتصنيعها في معاملها
الصغيرة الخاصة بصناعة السيوف والرماح
والعُدد الحربية والمنزلية الأخرى مع
ارتفاع تكاليف الاستيراد بسبب عدم
قدرة هذه المدن على إقامة مصانع
للتعدين في أراضيها.
وهناك
حكاية طريفة لها صلة بهذا الموضوع
ذكرها ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات
الذهب في أخبار من ذهب) فقد طلب
الهَجَرِيُّون عام 353هـ من سيف الدولة
الحمداني أمير حلب أن يمدّهم بما
يستطيع من الحديد الفائض عن حاجته.
ولأن الأمير الحمداني لم يكن لديه مصنع
للتعدين في مملكته فيرسل قافلة محملة
بقضبان الحديد والفولاذ، ولأنه أيضاً
لا يستطيع أن يجمع سيوف رجاله وخوذهم
الحربية ودروعهم ليبعثها إلى أصدقائه،
وهو الذي يحمي حدود الدولة الإسلامية
من غزوات الروم المستمرة فقد اضطّر إلى
خلع أبواب مدينة الرقة، وجمع الحديد من
كل مكان فيها، حتى فوّهات المجاري
فيبعثها إليهم.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق